“دراسة من مهارات القص النادرة”للأديب السكندري الكبير محسن الطوخي عن النص (النفق) للأديب محمد كمال سالم

القدرةُ على نَفْحِ روحٍ وحياةٍ في التجربةِ القصصيةِ هي إحدى خصائص الأديبِ الشاملِ. الأديبُ الشاملُ هو مَن يرى الوجودَ بصورةٍ كليةٍ، ويملكُ القدرةَ على إدراكِ التفاصيلِ ودمجِها مع صُلبِ التجربةِ بحرفيةٍ تُقنعُ القارئَ بحياةِ المشهد.

من سماتِ وعيِ الكاتبِ وحنكتِه التزامُ الحيادِ تجاه شخصياتِه. فمن الخطأِ الفادحِ، من وجهةِ نظرِ الإبداعِ الفني، أن يتبنى الكاتبُ أحكامًا أو آراءً سلبيةً تتعلقُ بإحدى الشخصياتِ القصصيةِ، سواءٌ بالتصريحِ المباشرِ ككراهيةٍ أو احتقارٍ، أو بحيلٍ فنيةٍ كمنحِ الشخصيةِ سماتٍ في التكوينِ أو المظهرِ تُحقِّرُ من شأنِها. هذا هو أهمُّ مَلمحٍ التقطتُه في الأداءِ.

فالشخصيتانِ الرئيسيتانِ في التجربةِ هما: “الشيخُ أكرمُ”، قارئُ القرآنِ المجاهدُ، و”الأمانةُ” – وهذا تعبيرٌ سوف نعودُ إليه – وهو الاصطلاحُ المستخدمُ على ألسنةِ المقاومين للإشارةِ إلى أَسْرَى السابعِ من أكتوبر. الأسيرةُ التي شاركتِ الشيخَ بطولةَ التجربةِ امرأةٌ صهيونيةٌ. لا يكادُ القارئُ يلمحُ فارقًا في طَرْحِ كلٍّ من الشخصيتين، إنما تكفَّلَ الحوارُ بينهما بتبيانِ الطبيعةِ الإنسانيةِ للشيخِ، رغم أن إنسانيتَه أوقعَتْه في خطأٍ فادحٍ، وهو السماحُ للأسيرةِ بالإفلاتِ مع علمِها بطبيعةِ المكانِ الذي يُمثِّلُ إحدى فتحاتِ الأنفاقِ.

بينما أظهرتِ الخاتمةُ الموفَّقةُ مدى خِسَّةِ ونذالةِ الأسيرةِ التي لم تَحْفَظِ الجميلَ. هذا الأداءُ الفنيُّ العالي، المتمثلُ في التزامِ الحيادِ الكاملِ، يُشي بوعيٍ كاملٍ لفنياتِ الأدبِ عمومًا، والقصِّ على وجهِ الخصوصِ.

لدينا ملمحانِ بخصوصِ مصطلحِ “الأمانةِ”:

الأصالةُ: وهي من صفاتِ شعبٍ نبيلٍ، يعي وصايا دينِه، ويسيرُ على خُطَى نبيِّه: “استوصوا بالأسارى خيرًا”. والتوريةُ عن الأسرى بلفظِ “الأمانةِ” تُشي بفهمٍ عميقٍ لقيمةِ الوفاءِ بالعهودِ. فالأمانةُ شرعًا هي أداءُ الحقوقِ والمحافظةُ عليها، ولغةً هي “الوديعةُ”. فكونُ المقاتلِ يتعاملُ مع الرهائنِ باعتبارِهم وديعةً وأمانةً، رغم انتسابِهم لطغمةٍ ما زالتْ تَصُبُّ الموتَ صبًّا على بيوتِهم ومخيماتِهم، فهذا دليلٌ على أصالةِ هذا المقاتلِ ونزاهتِه، وأحقيتِه في الانتصارِ والظهورِ على عدوِّه، مهما كان اختلالُ ميزانِ القوى بينهما.

الموقفُ القصصيُّ: الموقفُ الذي استُخدِمَ فيه المصطلحُ دار في حمأةِ انهيارِ مبنى سكنيٍّ للمدنيينَ تحتَ القصفِ الممنهجِ للصهاينةِ. وهو موقفٌ لا يمكننا فيه التفرقةُ بين المواطنِ العاديِّ وبينَ المقاتلِ. وهذا يُعطي ضمنًا معاني الوحدةِ واللُّحمةِ بين عناصرِ المجتمعِ؛ فلا فرقَ بينَ مقاتلٍ ومواطنٍ، الكلُّ يجمعُهم هدفٌ واحدٌ: المقاتلُ بالسلاحِ، والمواطنُ بالصمودِ والتمسكِ بالأرضِ. يشكِّلُ الأولُ قوةً ضاربةً، بينما يشكِّلُ الثاني ظهيرًا حاضنًا وحافظًا لأسرارِ المقاومةِ.

قصةٌ حافلةٌ بالأحداثِ، حبلى بمعاني البطولةِ.

تحيةٌ لشعبِنا في فلسطينَ الصامدِ، الصابرِ تحتَ شعارِ:
“وإنه لجهادٌ… نصرٌ أو استشهادٌ.”

تَوَّجَ اللهُ صمودَهم بالنصرِ بإذنِه تعالى.

يجلسُ الشيخُ أكرمُ هادئا مطمئنا فوقَ عتبةِ المسجدِ، يرتلُ القرآنَ ترتيلا، بينما المدافعُ تدكُ المدينةَ دكًا.
أيُهُما كان يُلقي سَناهُ الوضاحَ على وجهِ الآخرِ؟!
الشيخُ الطاعنُ في الكِبَرِ، بلحيتهِ الفِضيةِ العظيمةِ ووقارِهِ الآسرِ للقلوبِ، أمْ هذا المصحفُ الساكنُ بين راحتيهِ، وقد أثرتْ قبضتاهُ في غلافهِ الأصفرِ العتيقِ قِدَمَ البلدةِ العتيقةِ؟!
يتصافحانِ في سكونٍ، تحيطُهما هالةٌ من نورٍ، وكأنهما انفصلا عن هذه المدينةِ وارتقيا وقد أخذا عهدًا من آلاتِ التدميرِ ألا تقربَهُ ومصحفَهُ.
انفجارٌ مدوٍ في بيتٍ مجاورٍ غيرِ بعيدٍ، تطايرتْ الشظايا بالقربِ منهُ، أصدرَ تكبيرةً وقام منتفضًا، هذا بيتُ صديقي أخي”أبو عمارِ”، كان يصلي معي صلاةَ العصرِ.
يعاونُ أهلَ الحارةِ في رفعِ الأنقاضِ، وإغاثةِ سكانِ هذا البيتِ، يَصيحُ بين الفينةِ والأخرى (أبا عماارٍ) لكن لا مجيبَ.
ساعاتٌ صعبةٌ مريرةٌ، نساءٌ وأطفالٌ استخرجوهم تتدلى أجسادُهم بلا حياةٍ، صوتُ أنينٍ واستغاثاتٍ صادرةٍ من بين الركامِ، أحدُ المسعفينَ يضعُ فمَهُ بين الحجارةِ المهشمةِ يصيحُ (أمجدُ أمجدُ هل تسمعُني؟ إياك والأمانةَ، هل أنت عائشٌ؟)
يحِلُ الظلامُ بين رائحةِ البارودِ والموتِ، وما زال المجرمونَ يمنعونَ سبلَ الحياةِ عن القطاعِ من كهرباءٍ وماءٍ ووقودٍ، تتوافدُ فرقُ الإنقاذِ من الأهالي، بينهم أجانبٌ، ربما كانوا من الصليبِ الأحمرِ أو مراسلي الصحفِ.
يعودُ حيثُ ترك مصحفَهُ متعبًا، بعد أن أخرجوا كثيرا من الشهداءِ ومن الجرحى، أحدُهم يؤكدُ وجودَ أحياءٍ في البدرومِ وقد سمِع استغاثاتِهم.
يقاومُ الإرهاقَ، يراقبُ باهتمامٍ عملياتِ الإنقاذِ الجاريةِ تحتَ مصابيحِ الهواتفِ الواهنةِ، يسألُ بين الفينةِ والأخرى: هل وجدتم أبا عمارٍ؟
تؤلمُهُ بشاعةُ الموتِ والانتقامِ الغاشمِ، يمزعُهُ صرخاتُ النساءِ وبكاءُ الأطفالِ بينما كان يقتربُ منه شخصٌ غريبٌ،
يبدو أنه مصابٌ يكابدُ محاولةَ الوصولِ إليه، نهض الشيخُ ليعاونَهُ، يأخذَ بيدِهِ، يُجلسُهُ إلى جوارِهِ، يتفرسُ وجهَ الرجلِ الشاحبَ في الظلامِ، كان مخضبًا بالدماءِ، يرتعدُ بشدةٍ ويتألمُ في صمتٍ:
هل إصابتُكَ خطيرةٌ، هل كنت تحتَ الركامِ أم أصابتْك شظيةٌ، لمَ لا تتكلمُ؟ يحاولُ الشيخُ أكرمُ أن يتبينَ ملامحَ الرجلِ، لم أرَكَ تصلي معنا من قبلُ، هل أنت غريبٌ عن الناحيةِ، لم لا تجيبُني؟! دعني أساعدْك، يُمسكُهُ من كَتفِهِ يحاولُ أن يفتشَ عن جرحِهِ ومصدرِ نزيفِ الدماءِ، فيصدرُ صرخةً قويةً، رفع الشيخُ يدَهُ عنه سريعا: أنت امرأةٌ!!
ولكنْ هذهٍ سترةُ الرجالِ ال… ارفعي تلكَ الكوفيةَ عن وجهِكِ دعيني أراكِ، يستعينُ بضوْءِ هاتفِهِ الصغيرِ، يتفحصُها جيدا وهي تحاولُ أن تخفيَ ملامحَها عنه.
صوتُ تكبيراتٍ تأتي من ناحيةِ الردمِ، يسألُهم:
هل بينهم أبو عمارٍ؟ لا، هذا أمجدُ وقد نال الشهادةَ تحتَ الركامِ.
يحوقلُ الشيخُ ويتمتمُ ثم يواجهُهَا:
أنتِ إذاً أمانةُ الشهيدِ أمجدَ رحمهُ اللهُ وهذا شالُه وهذه سترتُهُ سترك بها، أليس كذلك؟ أستحلفُك بالله أيها الشيخ الطيب أن تساعدنَي على الهربِ (نطقتْها بلغةٍ عربيةٍ ركيكةٍ) ثم أضافت:
أنا مدنيةٌ ليس لي ذنبٌ، هم اختطفوني من أمامِ بيتي وزوجي غائبٌ ولا أعرِفُ ما مصيرُ أطفالي (تجهشُ بالبكاءِ متوسلةً) ولكننا نعرِفُ مصيرَ أطفالِنا، يشيرُ إليها والأطفالُ الذين أخرجوهم من تحت البيتِ وقد سحقتْهم الأنقاضُ.
أُقسمُ لك إني أتألمُ لهم مثلَكم، ونتمنى لكم الخيرَ والسلامَ فلم تكرهونَنا؟! نحن لا نكرهُكُم، نحن نقاومُكُم وقد اغتصبْتُم بلادَنا وبيوتَنا عُنوةً تتمتعونَ بخيراتِنا بينما نحن نعيشُ على الحافةِ وطعامُنا الكفافُ، وإذا ما حاولْنا المقاومةَ والتعبيرَ عن الغضبِ، كانت قوتُكم الغاشمةُ تقتلُ النساءَ والأطفالَ وتقتلعُ أشجارَ الزيتونِ، أخبريني حقا، مالَكم وأشجارَ الزيتونِ، لمَ تكرهونَها وتقتلعونَها؟!
لستُ منهم، أرجوك، كل ما أريدُهُ منك أن تدلَّني على طريقٍ آمنٍ؟ ربما تركتُكِ ترحلينَ، لكنْ ليس لكم ها هنا طريقٌ آمنٌ، أنتم غرباءُ مهما طال عليكم الأمدُ.
حركةٌ مرتبكةٌ وزحامٌ يقتربُ منهما، نساءٌ تنوحُ وهديرُ صوتِ الرجالِ يحملونَ جريحا ينزفُ، أحدُهم يأمرُهُ:
¬افتح النفقً يا شيخُ أكرمُ. حاضرٌ، هذا صديقي أبو عمارٍ.
يٌسرعُ الرجلُ، يحركُ يدا خشبيةً جِوارَ بابِ المسجدِ فينكشُ مدخلا في الأرضِ تحت العتبةِ التي يجلسُ عليها، يعودُ ويغلقُها فورَ أن يختفيَ فيها الرجالُ يحملونَ الجريحَ، يلتفتُ الشيخُ يبحثُ عنها، فلا يجدُها؛ ينتبهُ أنه كان لا يجبُ أن يفتحَ النفقَ أمامَها!
تمرُ الأيامُ ثقيلةً تحتَ النيرانِ وتحتَ القصفِ، وبين همهماتٍ بأن المغتصبَ سيقتحمُ المدينةَ بريا، والشيخُ لا يغادرُ عتبةَ المسجدِ، فإذا بفرقةٍ هجوميةٍ للنازيينَ الجددِ تقودُها امرأةٌ، كانت تُشيرُ لفوهةِ الدبابةِ أن تتوجَهَ إلى الشيخِ وإلى العتبةِ الجالسِ عليها.

اقرأ باقي العدد ١٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى