(خوف بارد) المجموعة القصصية الأولى للإعلامية الإماراتية المبدعة عائشة سلطان – النقد رؤية محلقة لكنانة عيسى

(خوف بارد) المجموعة القصصية الأولى للإعلامية الإماراتية المبدعة عائشة سلطان – النقد رؤية محلقة لكنانة عيسى

إن الكتابة البكر لها رهبة ماتعة و رهبة كبيرة كذلك، متصلة بالقارىء الضمني كما القارىء العادي، إنها انتقال شاق بين الأنا الداخلية المشبعة بتجارب الحياة وبين بوح الورق الذي سيعري فكر الكاتب وأيديولوجيته ومشاعره وفلسفة حياته ومعاييره، وعندما تتشكل مرحلية الكتابة من خلال رؤية لمثقفة كبيرة، وإعلامية مميزة لها باع طويل في الكتابة الصحفية وفن صناعة الخبر، ومخاطبة الآخر المختلف بلغة المياومة المتنوعة، والتتقل الشيق بين مواضيع وأفكار ومشاهد توثيقية و انعطافات فكرية و أحداث مجتمعية كبرى أو تحولات سياسية،فإن العمل الأدبي يأتي قلقاً، ومختلفاً وخارج أفق التوقعات، بعيدا، عما توقعته المؤلفة ذاتها

وفي حالة الأستاذة عائشة سلطان في مجموعتها الطازجة ( خوف بارد ) نجد أن هذه المجموعة القصصية تتبدل وتتغير لتشكل التجربة العميقة لعوالم الداخل المتشابكة، لفوضى المفاهيم و تداخل الرؤى و الانعتاق اللحظي لمخزون ثقافي ممتد وشاسع وفريد لا يخلو من الغرائبية، و السريالية والقوطية الرومانسية، والتجديد في طرح مواضيع التغريب و اللانتماء و فقدان الهوية، و النظرة لمفاهيم الجنوسة والفصل الجندري قيمياً بشكل معاصر وما بعد حداثي بالإضافة إلى الواقعية الكلاسيكية التي تصدرت أطر السرد وتمايزت فيه.
امتازت المجموعة في العموم بلغة رتيبة رشيقة ذات إيقاع واحد قصدي، فالتقعر اللغوي والسردية الشعرية لم يكونا هدفا للكاتبة، ولا حتى الاستعلاء الفلسفي، أو رصد الظاهرة المستقبلية أدبا، بل تكون النص السريالي والرمزي بشكل عفوي بعيدا عن المبالغات المقصودة، فنرى أنها اختارت أسلوباً بسيطاً مباشراً كان تقريريًا في بعض المواقع وخبريًا في مواضع أخرى، وأدبيًا وجدانياً رمزياً في بعض القصص، ومباشراُ حكائياً في بعضها الآخر، ليلائم كل قارىء عربي سواء كان سطحياً أم نخبوياً أم عاديًا، ورغم جنوح بعض هذه القصص الى جنس الخاطرة الأدبية المتمحورة حول الذاتية التأملية والتحديق في الآخر كنوع من التعمق في الأنا ولا سيما في بعض النصوص التي كان الراوي فيها متكلما غير موثوق، والتي امتلكت نهايات عائمة بدون ملامح خاصة فطرحت أسئلة وجودية مألوفة، مثل قصة( طعم البرتقال) التي تتحدث عن عقدة التوحد بذنب النجاة عندما تتلاشى كل أسرة الراوية في حادث أليم ويبقى منهم ذاكرةرائحة مذاق كعكة البرتقال ، وقصة(بحيرة) التي تطرح نموذجاً مألوفاً لحالة الوعي الجمعي التي تصيب مجتمعاً مصغراً مرتبكاً بجريمة غامضة تصبح فيه شخوص الضحايا رمزاً لانهيارأخلاقي رمزي، فإننا نجد أن البعض الآخر من السرود القصصية التي امتلكت راويًا عليمًا، كانت ثاقبةً ومتميزةً ومتفردةً في تقديم هوية قصصية متجددة متمايزة من حيث الموضوعة ولغة الخطاب في المتن والاتكاء على الرمزية الكافكوية، والسرد السريالي التغريبي، وضخ أنساق ثقافية نسوية مضمرة و غرائبية، عن الفصل الجندري وأثره في تعسف المجتمع الشرقي ولا سيما حين يصدر من المرأة إلى المرأة وبالتالي مصادرة حقوقها البسيطة وهويتها الأنثوية ضمن مفهوم لعنة الأسلاف،كما في قصة (كوكب الجدات) التي تتحدث عن تمكين الوصاية الأبوية المتنكرة بالجنوسة الأنثوية من خلال شخصية الجدة المتحكمة في حفيداتها والقامعة لهن والقاسية عليهن و( خوف بارد) التي تطرح الشرخ النفسي المتجذر بعد التحرش الجنسي المبكر والأثر الكارثي الذي يخلفه في تعامل المرأة مع رغباتها الجنسية المكبوتة، و معادلة الوجود في مؤسسة الزواج وقرارات الانفصال والاستقلالية وأفكار الحب ، وقد امتازت الأطر الفنية للبناء القصصي بمجمعها، بالكلاسيكية الواقعية التي اختلفت ثيماتها و وتنوعت أطر بنائها الفني، وبزغ فيها نجم الراوي العليم، مشيخا بنظره عن عن صوت الكاتبة، مثل قصص (ورود ليلى)التي تتحدث عن التغيير الزمكاني القاهر للمجتمع الضيق الذي يصحب تجربة الفقد او قتل الطفولةمتمثلة ب جريمة قتل الطفلة ليلى واغتصابها والتي تغدو رمزاً ناعماُ للنقاء والبراءة في ذاكرة المكان، ومثل قصة (رئيس التحرير) التي تتحدث عن الوصولية والشللية والغيرة المتراكمة بين أبناء الفصيل الواحد التي تصل حد الإقصاء والتهميش، وقصة (وجوه) التي تتحدث عن معاناة المبدع في بيئته والتي تنتهي دائما بأثمان متفاوته لا تخلو من الاستفادة من العلاقات ومفهوم الواسطة، وقصة (الوصية) التي تتحدث عن تناسل العواقب الأخلاقية للانحياز للشر والانحطاط القيمي المفجع الذي يجلب الوبال على صاحبته التي يفترض أنها رمز لتحقيق العدالة ، وبين السرد الفوضوي الرمزي الذاتي ذي المنحى النفسي مثل قصة (عطر) التي تتحدث عن الأثر الذي يرتبط بأناس تحوطهم الغرابة والغموض، يدخلون حياتنا وبحضورهم الحسي الغريب يحملون رسائل خفية، لتكشف عمق عقد النقص الداخلية التي تظهر على السطح حين يلتقي البعض بمن يختلف عنهم، من خلال ذاكرة الرائحة العاطفية واللاشعور بين الوعي وبين اللاوعي وأثره النفسي على صورة الآخر ، وقصة (حاجي ميت) التي تتبع موضوعة فلسفية مغلفة بالواقع، تطرح الأسئلة الوجودية الكبرى، عندما يتراكب فيها تصويرالواقع المحلي والغموض الفلسفي لشخصية حارس المقبرة السابق و حارس المقبرةاللاحق ورمزية الموت والأسئلة الماورائية الملحة الكبرى، والطارئة على الوعي الإنساني الجمعي العام، بينما استطاعت الكاتبة برشاقة طرح ثيمات مختلفة اتسمت بالمذاق الإخباري التقريري والفانتازيا الجاذبة ذات الغموض المفتوح على التأويل، مثل قصتي (جريمة)و (سر الغيمة البيضاء) التي تتحدث عن مواقعة الحقيقة الصادمة وتأثيرها على الذات الفاعلة والمتفاعلةفي المجتمع الكوزموبلاستيكي المغلق الذي ينعزل فيه المرء ويغدو حبيساً لمعرفته بذاته، وعاجزاً عن الاعتراف بذنوبه وأخطائه ويغدو التحرر من هذه المعرفة بداية الارتقاء الروحي .
بينما تكاملت القصص السريالية التي أورق فيها الرمز وتفرد، على وعي مجتمع التلقي، فخاطبت عائشة سلطان النخبة في قصص مثل ( قدم صفراء) التي تتحدث عن تداول الموروث المجتمعي المتوازي وتعانق الحضارات، وتقاطعات الفكر الإنساني و تفوق الخرافة على العلم والإرث النسوي المسيطر على عقول العوام

وقصة (خبز) المفضلة لدي في المجموعة كلها، التي تمثل سريالية ما بعد حداثية، ينكفىء فيها الرمز نحو ضبابية الأمكنة وهلامية الزمن وقلق المرأة المعاصرة المستقلة، المرتبط بالتغريب البريختي الوجودي من حيث طفو الحس النسوي الخفي، وتداعيات الذاكرة المرئية العميقة في الحد الفاصل بين الوعي باللحظة والصراعات الوجودية الداخلية، وتلاشي وجود الذات في ظل الشعور باللانتماء والقلق والاستسلام للضياع المعاصر الذي يسبب تشتت الإحساس بالحاضر والتباس الإحساس بالحياة بين الحقيقة والوهم.
مجموعة متميزة متنوعة نطل فيها على عوالم عائشة سلطان الفريدة في تجربة كتابتها القصصية الأولى، التي تميزت بالجرأة في الطرح، والملاصقة للواقع، ونقد المجتمع بنظرة رمزية مواربة و المسار الفكري النسوي الصريح، الذي يخلو من المغالاة والتبجح، بل يتسم بالشجاعة والوجدانية والرمزية المستوحاة من الموروث، حين يشار باصبع الاتهام الى( المرأة) حين تتقن بذاتها فن خلق الحدود الجندرية المجحفة بحق بنات جنسها، جيلا بعد جيل.
دام القلم المبدع.