حين تهمس الأشجار باسم أبي ….. شعر ليلاس زرزور


مقدمة :

هل جرب أحدكم أن يصغي لهمس الأشجار؟
أن يقف بين أغصانها كما يقف بين أذرع أمه، يودع فيها حزنه، ويبث فرحه ويربت على أوراقها كمن يربت على كتف صديق قديم؟
هل شعر أحدكم يومًا بأن الزريعة، تلك الخضراء الصغيرة، تنمو حين تبتسم لها، وتذبل حين تغيب عن حديثها؟
أنا فعلت… وما زلت أفعل.
أحادثها كل صباح كأنها تعرفني أكثر مما يعرفني الناس.
أسقيها من قلبي قبل أن أسقيها الماء .
أنحني عليها كمن ينحني على طفل …
أضمها إليّ، فأشعر أنها ترد العناق… وتطمئنني بأن كل شيء سيكون بخير.
آه يا أبي…
كم كنت تحبها و تشبهها ، لا تتكلم كثيرًا، لكنك كنت تُظللنا جميعًا بحنانك وتحتوينا بأمن الدنيا وسلامها .
هل تعلم أن الكروم ما عادت تثمر بعد رحيلك لعدة سنوات ؟
كأنها حزنت مثلي، بل ربما أكثر.
كانت تشتاق لخطاك، لصوتك، ليدك التي تمسح عنها الغبار برقة، وتحدثها كما يُحدث الحبيب حبيبته.
غريبٌ كيف يمكن لشجرة أن تمنحك شعور الوطن.
غريبٌ كيف يمكن لزريعة صغيرة أن تمسح عنك وجع الغربة، أن تحتضنك بصمت، وتغني لك لحن البلاد التي ودّعتها ..
أن تشاركك الفرح والحلم و الطموح .
حتى أنني ما عدت غريبة حين أكون بينها، أشعر وكأن إخوتي وأخواتي منغرسون في القلب ، وأن أمي تسكن الروح …
وأنك، يا أبي، ترفّ فوقها كطيف حنون.
تلك النخلة ؟
رأيتها فجأة، فشهقت،
شعرت أني أراك مجددًا، تسير بقربي في دروب حلب، في كروم الفستق و الزيتون ..
تناديني بحنانك، تشير لي: “انظري! هذه من بلادنا.” وما أجملها من بلاد …
تلك النخلة!!
لم تكن نخلة فقط، كانت طريقًا إلى الذاكرة، إلى الدفء، إلى البيوت التي ما زالت تنتظر ..
كثيرون يستغربون وربما يضحكون ويتهامسون …
“تحكي مع الزريعة؟”
لكنهم لا يعلمون أن بيني وبينها لغة لا تحتاج إلى كلمات.
لغة الأب ، والوطن ..
والروح التي تعلّقت بجذورٍ صغيرة كي لا تسقط.
تحدثوا إليهم… جربوا مرة أن تسألوا شجرة عن أحوالها.
أن تمسحوا على ورقةٍ يابسة كما تمسحون على رأس طفل يتيم.
سترون أنهم يجيبون…
ليس بصوت، بل بشيء أعمق، شيء يشبه الطمأنينة …
يشبه صوت أبي حين كان يقول لي:
“لا تخافي… طالما نحن هنا، لن تكوني وحدك.”
وها أنا… لست وحدي،
ما دامت أشجار الزيتون وهذه النخلة يكبرون كل يوم معي ،
وما زال قلبك ينبض في جوفها…
فأنت يا أبي… لم تمت.
لقد أورقت حبا و عشقا و غراما ..
رحمك الله يا أبي .
حين تهمس الأشجار باسم أبي ….. شعر ليلاس زرزور

لها منَ القلبِ نبضُ الشعْرِ قد وثَبا
فهي العطاءُ الذي مامرَّةً نضَبا
أكْرمْ بسيّدة الأشجارِ باسقةً
نحوَ السماءِ جَلالاً يبعَثُ العجَبا
وَطِلْعُها لُؤلُؤٌ تبقَى تَقَبَّـلُهُ
أشعّةُ الشمسِ حتّى يكْتسي ذَهَبا
لمْ تَحْنِ رأساً إذا مالريحُ تضربُها
فهي التحدّي الذي لايَعرفُ التَعَبا
وهي الكَريمةُ لو يرمونَها حجَراً
من فَضْلِ خالقِها تُعطي لهمْ رطَبا
تُظلّلُ الصُبحَ بالأفياءِ زاهيةً
وللعَصافيرِ شَدْوٌ يبعَثُ الطَرَبا
زادُ الفقيرِ بها إنْ حالَهُ عصَفَتْ
بهِ الخُطوبُ وأضحى يشتكي السَغَبا
تُعطي لَنا ثَمَراً حُلواً لآكلِهِ
أنواعُهُ كثُرَتْ والطَعْمُ قد عَذُبا
وسَعْفُها بَهْجَةٌ في عينِ ناظرهِ
إذا يُداعبهُ يوماً نسيمُ صَبا
كأنّها الشمسُ في تكوينِ خلقَتها
والجذعُ يحملُها كي تبلُغَ السُحُبا
وكمْ شكا عاشقٌ أشواقَهُ فَحَنتْ
عليهِ كالأُمِّ تُجلي الحُزنَ والوَصَبا
حتى كأنَّ لها رُوحاً تُهامسُ مَنْ
رَنا إليها وَمنْ منْ جذعِها اقترَبا
ورُبّما قد بكتْ شوقاً إذا قَطَعوا
منها الفسيلَ وعن أحضانِها اغتَربا
تجودُ في الخيرِ في اثمارِها وإذا
دَنا الشتاءُ ستُعطي السَعْفَ والكَرَبا
فكُلُّها للورى خيرٌ ومنفَعَةٌ
مدى الزمانِ فسُبحانَ الذي وَهَبا