” جبر الخواطر ” ….قصة قصيرة بقلم أحمد رأفت


” جبر الخواطر ” ….قصة قصيرة بقلم أحمد رأفت

وصلتُ قبل موعد المقابلة الشخصية بحوالي الساعة، للمرة الألف أتقدَّم بطلب الحصول على فرصة عمل .. فهل أعود اليوم مجبور الخاطر؟ .. لم أبلغ بعدُ مبلغ اليقين .. ماذا أفعل الآن؟ .. فمقر الشركة على بعد خمسة دقائق سيرا على الأقدام .. كان بوسعي أن أؤخر نفسي قليلا لأصل في موعدي .. لولا أنني لم أصادف اليوم الازدحام المروري الذي اعتدتُ عليه كلما مررت من هذا الطريق ..
ها هي مئذنة مسجد السيدة صفية الكائن في شارع العروبة على مقربة ، لمَ لا ألحق بصلاة العصر حاضرا، ويمكنني المكوث في المسجد حتى يحين موعد المقابلة .. سرتُ إلى المسجد أقلّب عينيَّ هنا وهناك ، شاهدت من بعيدا جمعا من الناس يخرجون من المسجد .. يبدو أنهم قد فرغوا من أداء الصلاة .. كان من بينهم كهل في الخمسين من عمره أقبل يجرجر قدميه، يبدو أنه متعب .. هيئته تنم على أنه من الصعيد، رجل كغيره من الرجال .. ألقت به الأقدار في دروب المدينة الواسعة أملا أن يجد لنفسه فيها مكانا.. كان نحيفا .. يرتدي جلبابا رثة.. وعمامة بيضاء، يحمل في يده كيسا من البلاستيك الأسود، وقد اختفت عيناه وراء نظارة ذات عدسات سميكة تشي بضعف نظره .. وخط الشيب لحيته .. وخطَّت السنون على جبينه خطوطا تحكي للناظر ما فعلت به الغربة والحظ العاثر..
كان بؤرة التقائنا شجرة من الأشجار العتيقة التي ازدانت بها شوارع مصر الجديدة .. فجأة ودون سابق إنذار ارتطم الكهل بالشجرة، أو يمكن أن تقول ارتطمت هي به، فهوى على ظهره من شدة الصدمة، وتبعثرت أشياؤه على الأرض في مشهد كارثي قلَّ أن ترى مثله..
أسرعت إليه محاولا أن أمد له يد المساعدة .. لملمت أشياءه المبعثرة: كيسه الأسود الذي طار من يده، نظارته التي فارقت وجهه عنوة بعد أن تهشم زجاجها من هول الارتطام..
قلت له : هل أنت بخير يا حاج ؟ .. ألم تر الشجرة ؟ ..
نظر إليَّ متحسرا ولم يرد .. ثم غمغم ببعض الكلمات حين رأى النظارة : “حتى النضارة اللي كنت بشوف بها انكسرت” ..
ساعدته على النهوض، ونفضت عنه ما علاه من الأتربة، ثمَّ عرضت عليه أن يبقى معي بعض الوقت نتحدث سويا، فما زال أمامي وقتا ليس بالقليل على موعدي .. فلم يبدِ اعتراض .. كنت بحاجة ماسة إلى أن أتحدث إليه ، أن أعرف حكايته ، وقد أخفف عنه بعض ما فيه ..
دخلنا المسجد واستأذنته أن أغيب عنه دقائق أتوضأ خلالها؛ لنصلي العصر جماعة.. نظر إليَّ معتذرا وقال أنه سبقني لصلاة العصر .. تركته يدخل المسجد في حين ذهبت أنا للوضوء وعندما عدت .. كان منهمكا في مناجاة مع ربه .. مشهد أثيري فريد ، يحتاج إلى ريشة فنان ترصد مدى روعته .. يدان مرفوعتان إلى السماء .. جسم يرتج أثناء الدعاء .. وعينان تفيضان بعبرات ساخنة.. تروي عوده الذي جففته قسوة الحياة .. مناجاة شديدة الخصوصية اهتز لها كل ذرة من كياني .. لدرجة أنني تمنيت لو أن لي سمعا رهيفا أصغي بها لما يقول هذا الشيخ لربه..
توجهت إليه بعد أن فرغت من صلاتي لا يشغلني سوى الإحسان إليه ولو بكلمة طيبة.. ما إن سألته عن حاله حتى فتح لي قلبه المثقل بالهموم وبدأ يقص عليَّ حكايته :
( تعرضت منذ حوالي ثلاثة شهور لحادثة أقعدتني عن العمل .. فأنا عامل بناء .. اتكسب رزقي من حمل الطوب والرمل والزلط والصعود بها إلى الأدوار العليا في العمارات التي تُبنَى .. رزق يومي بسيط لكنه يعينني على الحياة.. ذات يوم زلت قدماي أثناء العمل فوقعت من فوق (السقالة) على رأسي .. الأمر الذي ترتب عليه دخولي المشفى وإجراء عملية جراحية في رأسي .. وقد نصحني الأطباء بضرورة التوقف عن هذا العمل الشاق حتى لا أفقد بصري .. ومذاك وأنا أرتدي تلك النظارة التي تهشم زجاجها .. ولا أفارق الحجرة التي أسكن فيها وأسرتي ..
اليوم قررت الخروج للبحث عن عمل .. عمل يناسب حالتي الصحية .. لا أبذل فيه الجهد البدني الذي حذرني منه الأطباء .. مسحت المدينة يمينا ويسارا بحثا عمل .. حتى كلَّت قدماي .. بلا جدوى .. قد تتساءل في نفسك لماذا اليوم بالذات .. بعد ثلاثة شهور من البطالة ؟ .. ما الذي تغيَّر لأخرج من بيتي باحثا عن رزق؟ .. وكيف كان حال أسرتي طوال هذه الفترة وعائلها الوحيد بلا عمل ؟! .. أقول لك سيدي :
شمرت ابنتي الكبرى .. ذات الخمسة عشرة ربيعا عن ساعديها وبدأت تعمل في مصنع للملابس وتعيننا بأجرتها اليومية .. ما كان أخواتها الصغيرات يقدرن على العمل .. وما كنت لأسمح لهن بالتسول في الطرقات .. أما زوجتي – فلأول مرة منذ أن تزوجنا – تخرج للعمل .. اقترضت من أحد التجار بعض الخضروات على أن تسد ثمنها آجلا.. كانت تبيع الخضروات للناس على فرشة أعدتها أمام البيت الذي نسكن فيه .. كانت تحاول جاهدة أن تدرأ عنا شر الحاجة..ولكن الحمل كان ثقيلا .. أسرة تتكون من سبعة أفراد .. مصدر رزقها لا يكفي لسد الاحتياجات البسيطة .. وعائلها لا حول له ولا قوة .. لذا كان علينا أن نتدبر أمورنا ببعض التقشف .. ” فمن يفطر لا يتغدى .. ومن يتغدى .. لا يتعشى” .. هكذا كنا نقضي أيامنا العجاف ..
منذ يومين خرجت للبحث عن رزق .. صادفني شاب في مثل عمرك .. كان يتناول عشاءه على قارعة الطريق .. رُصَّ أمامه بعض أرغفة “الحواوشي” .. وقعت عيناه عليَّ أثناء الأكل فأمسك برغيف من طعامه وأعطاني إياه .. هممت بإدخاله معدة خاوية لم تذق الطعام منذ يومين .. لكنني تذكرت أسرتي التي قاسمتني الجوع نفسه .. فرجعت به إلى حجرتنا الصغيرة.. وكان عشاؤنا..
أيام عجاف قضيناها بستر الله .. إلى أن جاء يوم طرق باب غرفتنا صاحب البيت .. يطالبنا بأجرة الغرفة المتأخرة منذ ثلاثة شهور .. أنذرنا بالطرد منها إذا لم ندفع اليوم .. هذا ما دفعني اليوم للخروج من قبري .. كي أنقذ ما تبقى مني ….. )
سمعت حكايته مشدوها بما قاله .. متعجبا من صبره الجميل على حاله .. ما أقسى الحياة على هذا الكهل الفقير! .. كانت نيتي عندما رأيته أن أخفف عنه همَّه ببعض الكلمات .. لكن الكلمات في هذه الحالة لا تكفي .. لاتسمن ولا تغني من جوع .. بحثت في جيوبي ..أفرغتها مما كانت تحتويه .. أعطيت الرجل ما كان فيها .. وما كان فيها إلا قليل ..
تركته ورائي ومضيت إلى حال سبيلي .. أثناء عبوري للطريق .. حانت مني التفاتة إلى الوراء .. فوجدته واقفا أمام المسجد .. ينظر إلى ما في يديه .. وفجأة .. نزع عمامته من فوق رأسه .. برك بركبتيه على رصيف الشارع .. رفع يديه إلى السماء .. وبدأ يهلل .. ويشكر ربه في صوت مسموع ……
أخيرا جهر الكهل بمناجاته دون أن يدري أن هناك عيونا تترصده وآذانا ترتشف رحيق مناجاته .. نزل صوته على قلبي بردا وسلاما فتذوقت اليقين .. هممت بالرجوع إليه .. لأسأله عن اسمه أوعنوانه .. لكن جنون السيارات المسرعة حال بيني وبين ما أريد .. لا يهم .. هناك الكثيرون مثله في الحياة .. وما عليك إلا أن تفرك عينيك لترى ……
تمت