العبرة بالنهايات وليس البدايات … بقلم د. آمنة الهجرسي

    لم يكن عبثا أن أمرنا الله تعالى بالسير في الأرض والبحث في تاريخ السابقين وبخاصة قصص الأنبياء والصالحين وأحوالهم مع الطغاة ومراحل إعداد بعضهم للمهمات الموكلة إليهم .. لم يكن عبثا بقاء تلك القصص والعبر عن العديد من الشخصيات في القرآن الكريم والسيرة النبوية وكتب التاريخ التي حفظت لنا تاريخ العظماء ممن مهدوا للحضارة الإسلامية حتى يومنا هذا …لماذا ؟!!!  لنتعلم كيف نتعامل ، نقارن ، نفكر ومن ثمَّ نُعمل عقولنا لإصدار الأحكام الصحيحة والعادلة على الأشخاص ، الأوضاع والمجتمعات ..إلخ

      من الشخصيات الإسلامية الشهيرة والمؤثرة والملهمة على المدى البعيد شخصية سيدنا خالد بن الوليد- رضي الله تعالى عنه – والشهير بلقب سيف الله المسلول ،  القائد العسكري المحنك الذي اشتهر بقدرته الفائقة على التكتيك والتخطيط المحكم لإدارة وكسب الحروب … لم يدخل الإسلام في بدايات الدعوة وكان سببا في هزيمة المسلمين في معركة أحد الشهيرة  وكان ضمن الأحزاب في غزوة الخندق ودخل الإسلام بعد صلح الحديبية وقبله الرسول صلى الله عليه وسلم بل وأوكل إليه مهام عسكرية شديدة الخطورة بالنسبة للدولة الوليدة التي يحيط بها المتربصون من كل جهة ، لم يمنعه تاريخه العسكري القديم من منحه الثقة وفرصة للتعويض عما سبق ، وبالفعل أبدى سيف الله المسلول براعة وتفان غير مسبوقين في كل المهام التي أوكلت إليه حتى بعد وفاة سيد الخلق فقاد المسلمين في حروب الردة وفتح العراق والشام ولم يهزم في معركة قط في أكثر من مائة معركة فيما تذكر المصادر  التاريخية وكان يتمنى الشهادة من قلبه .عزله الفاروق ليس لسبب مشين وإنما خوفا على الناس من الافتتان به وهو مصيب جدا ؛ فالناس يفسدون كل شيء بالمغالاة فيه فأصبح يقاتل في جيش أبو عبيدة بن الجراح وعاش في حمص مدة تقترب من أربع سنوات ومات على فراشه ودفن في حمص على دين الإسلام وبتاريخ حافل بالبطولات النادرة وأمثاله كثر ..

      لقد كان رضي الله عنه عبدا حبشيا قبل حادثة قتله لحمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أُعتق على إثر الحادثة ، ويكنى بأبس دسمة وهو مولى جبير بن مطعم بن عدي فيما تذكر المصادر … قدم على رسول الله مستجيرا حتى يسمع كلام الله  ويقال أن الآية الكريمة في سورة الزمر ” قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ” قد نزلت فيه وفي بعض نفر من الصحابة من بينهم خالد بن الوليد قد أثخنوا في المسلمين قبل إسلامهم وخافوا من عدم قبول توبتهم ، ومع ذلك قبلهم سيد الخلق وصحبه ؛ فالإسلام يجب ما قبله وكذلك التوبة النصوحة تجب ما قبلها ..ولما رأى سيدنا وحشي هذا القبول وهذه الرحمة في دين الله قرر التكفير عن ذنب مغفور من خالقه فشارك في حروب الردة بقيادة خالد بن الوليد وشارك في قتل رأس الشر في تلك الأوقات ” مسيلمة الكذاب ” وكان يقول عن حربته أنها قتلت خير الناس ومن ثمّ شر الناس ..لم يمنعه أحد ، لم يشكك في نواياه أحد فالأعمال بالنيات ، والأمثلة على ما سبق كثيرة ممن كانوا على الكفر أو ضلالة ما ثم صلح أمرهم وكانوا مثالا يحتذى به فيما بعد …

    ولنا في قصة النبي العظيم ، أحد أولي العزم سيدنا موسى عليه السلام عبرة وعظة في هذا الأمر ؛ فقد تربى في قصر عدوه تحيط به بيئة تفوح منها رائحة الكفر والسحر والضلالات فكان منه أن بدأ حياته قاتلا في المدينة وفر منها خوفا على نفسه ..لماذا ؟!!! لينتقل إلى بيئة مغايرة تختلف عن تلك التي كانت بمثابة ” فترة الحضانة ” في قصر فرعون ، إنها بيئة الإعداد للمهمة الكبرى على يد سيدنا شعيب عليه السلام ولهذا قال المولى جل وعلا ” ولتصنع على عيني ” في سورة طه واستمر في تلقي دروس الصبر واكتساب الخبرات لعشر سنوات وعاد إلى حيث بدأ كل شيء لكنه لم يكن كما كان  وذكره فرعون بما كان فاعترف بذنبه أمامه بعد حصوله على صك التوبة من خالقه ” قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ” سورة الشعراء ، وأنتم تعلمون باقي القصة وما أشهرها.

      فالعبرة إذن بالنهايات وليس البدايات لكن البشر وعاداتهم الضالة المضلة تجعلهم لا يغفرون ولا ينسون ، ومن الجهل ..قمة الجهل أن لا نعود لمثل هذه القصص والعبر لنتعلم منها ولنبحث في دلالاتها والغايات منها ..في هذا العصر ، عصر الفتن ، من الطبيعي جدا أن نجد هذا الكم الهائل من الكذب والتدليس والادعاءات والتشويه لدين الله وسنته في الأرض ” الإسلام فوبيا ” ..هذه الحرب الضروس على الإسلام والمسلمين وهو دين الحرية والعدالة والحق والمساواة والإنسانية في أسمى معانيها سببها نحن وليس الآخر .. أي نعم .. جهلنا بديننا وتاريخنا على حقيقته وركوننا إلى الحصول على كل شيء بما في ذلك الأفكار والمعتقدات من الآخر الذي لا دين له إلا مصالحه وأهدافه المادية البغيضة وحب الاستحواذ والسيطرة على العالم هو الذي أعاد الجاهلية المقيتة لتطل بقوة في كل منزل وساحة ومشهد في بلاد أضاء سماءها الإسلام لقرون عديدة .. عن أي جاهلية أتكلم ؟؟؟

 الجاهلية … لفظ مذكور في القرآن الكريم ليصف أحوال الناس قبل البعثة والدعوة لدين الله الحق حيث انتشر الشرك والجهل والعبودية وأكل الربا وحقوق العباد والنساء وغير ذلك لكنه لم يذكر هكذا دون وصف يحدده فقد قال جل وعلا : ” ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ” لماذا وصفها المولى بالأولى؟!! لأنه جل وعلا ينبهنا إلى عودة الجاهلية مرة أخرى وقد عادت بالفعل بل وأسوأ من ذي قبل ؛ لأن العرب في جاهليتهم الأولى كانوا على خلق كريم تحركهم المروءة والشجاعة ولا يقبلون الدنيئة على أنفسهم ، ولم تكن الحرة العربية الأصيلة لتأكل بثدييها كما هو الحال في عصر الانحطاط الأخلاقي المقيت الذي نعيش فيه اليوم …هذه هي الجاهلية التي أقصدها ..الجاهلية التي تؤجج نيران الفرقة والعصبية الغبية ..الجاهلية التي لا تفرق بين أصحاب الحق وبين السفاحين والجزارين وآكلي لحوم البشر …وأخيرا لا تحكموا على أحد بناء على أفعاله السابقة قبل أن تنظروا إلى أفعاله التالية فلربما جعل الله فيه خيرا وأنتم لا تعلمون .

اقرأ باقي العدد ١٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى